April_09Banner

قصة قصيرة

 

    حين يجيء الصيف وتغلق المدرسة أبوابها، يأخذ ملابسه وينطلق إلى بيت والده. كان موزعًا بين بيت خاله الذي تربى فيه، حيث يقضي السنة الدراسية، وبين بيت والدته ووالده الذي يزوره في أيام الجمع، وعند انتهاء امتحاناته يذهب ليقضي الصيف عندهما مع إخوته. يفرح بذلك ويشعر بالانطلاق والخروج والسهر. يستمتع بالنزهات، والأصدقاء، وحياة الحارة والشارع الذي يبقى بعيدًا عنه طيلة العام الدراسي متفرغًا للمذاكرة والتحصيل. يسعده هذا الاختلاف والتغيير، يجعله في شوق دائم للقادم والجديد. وعندما يصل إلى بيت والده ينتظر نتيجة الاختبارات ليخبر عمه بالنتيجة التي، دائمًا، ما تجعله يستحق عليها هديته السنوية المعتادة التي كان عمه يشتريها له: دراجة عادية يستخدمها كل الصيف بشرط أن يتخلص منها في نهاية الإجازة. يبيعها ويقبض قيمتها، وغالبًا ما يستخدم تلك النقود لشراء حاجياته للعام الدراسي الجديد وعمه الذي لم يرزقه الله الذرية يُعجب به ويتباهى به أمام جلسائه عندما يأتي للسلام عليه. غالبًا ما يأتي عمه في العصر بسيارته الرمادية ليجلس في الحارة التي تركها منذ سنوات ليسكن أطراف المدينة مع زوجته، تاركًا بيت العائلة الكبير. كان ينتابه شعور بالزهو وهو يسمع كلمات المديح من عمه أمام جلسائه، عمه الذي يرى فيه ابنه الذي لم يرزق به.
    بعد صلاة المغرب يذهب إلى الرباط في حارتهم، وهو مبنى قديم من طابقين تسكنه الأرامل والعجائز من النساء المنسيات المنقطعات من الناس وعن الناس، يتوزعن غرف الرباط التي صممت في الداخل مطلة على الفناء.
    عندما يدخل يشم رائحة العقوق والفقر والرماد تنبعث من هذه الغرف التي لا تخلو كذلك من النميمة بين ساكنيه من النسوة اللواتي شعر، دائمًا، بأنهن بحاجة إليه، لكنه في تلك السن لم يكن يملك إلا أن يذهب إلى كل واحدة منهن في غرفتها يسألها عن حاجتها من السوق. الطلبات متشابهة في أكثر الحالات، الخبز والجبن وأحيانًا الدخان والدواء. يأخذ من كل واحدة قيمة ما يشتريه لها وينطلق بين المغرب والعشاء لإحضار طلباتهن في الأكياس الورقية السمراء، قبل انتشار أكياس النايلون الحالية.
    في عودته يمر على كل واحدة منهن يسلمها كيسها والباقي من نقودها، وقبل خروجه يدعون له، وكان بعض النسوة يسألنه بصوت منخفض عما اشتراه لهذه أو تلك من الجارات في الرباط أو ما دار بينه وبينها من حديث.
    وحين ينتهي الصيف يودعهن واحدة واحدة، وعندما يعود في الصيف التالي يجد أن واحدة منهن في أغلب الأحيان قد غادرت الرباط أو غادرت الدنيا. ما دفعه إلى هذا العمل ذات صيف أن سيدة من سكان الرباط على صلة بجدته كانت تزورها من وقت لآخر في منزلها. وبعد موت جدته تقدمت بصديقتها السن، فأراد أن يبقى على صلة بهذه السيدة التي ضعف بصرها وانقطعت عن العالم في غرفتها في هذا الرباط الذي يحمل اسم أسرة ثرية أوقفه كبيرها على الأرامل والمقطوعات من الأهل، أو من جار عليهن الفقر، أو فارقها الزوج، أو عقها الأبناء.
    يتذكر اليوم هذه التفاصيل بصعوبة. فهذه الذكريات منذ كان يافعًا لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، لكنه جُبل على مساعدة الآخرين وحب الخير والسعادة بفرحهم بالفطرة. لم يأمره أحد بذلك، فحتى في تلك الأيام البسيطة كان كل واحد مشغولاً بنفسه وخصوصياته، لكنه كان يقتطع الوقت للآخرين ويجد لذة بالغة في ذلك وعندما يذهب اليوم مع أصدقائه إلى المكان نفسه، ويندر أن يحدث ذلك، يجد أن الرباط قد هدم وبُني مكانه مشروع تجاري يضم مجموعة من المكاتب والمعارض. يتساءل: أين ذهبت الأرامل والمسنات؟ وأين يسكنَّ اليوم؟ يعرف أن ساكنات الرباط فارقن الدنيا منذ سنوات طويلة، لكنه يدرك بمرارة وألم أن عدد الأرامل والعجائز اللاتي يسحقهن الفقر والمرض اليوم أكثر بكثير من اللاتي كان يراهن في هذه الغرف المتواضعة الخالية من الأثاث ذات المفارش المهترئة، والأواني القديمة، والملابس المتآكلة.
    يحن إلى طفولته، إلى رائحة الشارع الرطب في حارة البحر، متذكرًا رائحة الرماد والعقوق والوحدة التي تنبعث من هذه الغرف. يتذكر كيف كانت حال أولئك النسوة اللاتي لم يعد يذكر من أسمائهن سوى واحدة، صديقة جدته، وقد كبرت وخف بصرها وانقطعت عن الدنيا، تلوك الوحدة، ويكويها العقوق وانتظار الموت.

     

     

    الـربـاط


     

    • صالح عبدالله بوقري